U3F1ZWV6ZTgxOTkyNDEzMzBfQWN0aXZhdGlvbjkyODg2MDk0Nzg0

التدين الحقيقي والصحة النفسية - د. ماهر صموئيل



التدين الحقيقي والصحة النفسية





حقيقية علمية وسؤال منطقي:

بعد أن استطاعت منظمة الجينوم البشري (HUGO) بالولايات المتحدة الأمريكية، الحصول على أول نسحة دقيقة للمخطوطة الوراثية الكاملة لإنسان عادي، في سنة ٢٠٠٣، توالت الأبحاث لتثبت، أن التشابه الجيني بين الإنسان والشمبانزي يزيد عن ٩٨٪!!! وبالطبع، سعد جدًا بهذه النتيجة رافضو حقيقة الخلق؛ إذ وجدوا فيها ما يدعم نظرية التطور. أما بالنسبة لي، فقد أسعدتني جدًا لسبب أخر؛ فقد أكدت عندي حقيقة هامة للغاية، يمكن الوصول إليها بسهولة إذا بدأنا بهذا السؤال المنطقي:
كيف يكون التشابه في الجينوم بين الإنسان والشمبانزي بهذا القدر، والذي يصل لحد التطابق التام، بينما الاختلاف الأدبي والفكري والعاطفي بينهما، يكاد يكون هوة سحيقة لا يمكن عبورها؟ فهل، على سبيل المثال، سُمِعَ مطلقا أن واحدًا من أرقى أفراد عائلة الشمبانزي الجليلة، والتي هي من أقرب أقربائنا، طبقا لرأيهم، قد نظم قصيدة، أو ألف كتابًا، أو نحت تمثالاً، أو كتب لحنًا، أو اخترع اختراعًا، أو سن قانونًا، أو حلم بالصعود للقمر، أو فكر في عبادة الإله؟

الاستنتاج المنطقي

إذا كان الرد هو: كلا، لم يسمع مطلقًًا بهذا. فهذ يقودني لاستنتاج منطقي هو: حتمًا هناك في داخل الإنسان شيء أخر لا علاقة له بالجينوم، هو الذي يجعل الإنسان إنسانًا. وأن هذا التشابه في الجينوم بينه وبين الشمبانزي هو مجرد تشابه في الجسد فقط، ومن المستحيل أن يكون الإنسان مجرد جسد. يقينا هناك شيء بداخله هو المسئول عن هذا الاختلاف. هذا الشيء هو ما يعرف عندنا المؤمنين بالله باسم الروح. وبالتالي لا يمكن أن يكون الإنسان كائنا بيولوجيا فقط يأكل ويشرب ويتناسل ويحزن ويفرح ويغضب ويسعد كالحيوانات. بل هو بالإضافة لكونه كائنًا بيولوجيًا هو أيضًا كائنًا روحيًا.

النشاط الروحى 

وما يدعم هذا الاستنتاج بشدة، هو هذا النشاط الروحي الذي يمارسه الإنسان في كل بلاد الدنيا، مهما اختلفت الحضارات والثقافات، وحتى قبل ظهور الديانات. وأيضًا، هذا الشعور العميق في داخله منذ قديم الزمان، بأنه من المستحيل أن تكون نهاية الجسد بالموت هي نهايته كإنسان. فهو موقن بأن له وجود بعد فناء الجسد. هذا ما أمن به أجدادنا كمصريين، ورسموه على مقابرهم وعلى جدران معابدهم. بل وكتبوه في كتاب الموتي، بل وكان هو السبب في أعظم اكتشافاتهم؛ ألا وهو فن التحنيط. وهذا ما أمن به سقراط، وأخبر به تلاميذه قبل أن يتجرع كأس السم، تنفيذا لحكم الإعدام. فيا ترى لأي شيء سيكون هذا الوجود، أو إن شئت فقل هذا الخلود الذي أمنوا به وانتظروه؟ بالطيع هو خلود الروح.

النشاط الإبداعي

إذًا، كل هذا النشاط الإبداعي يرجع للروح. وإذا اقتنعنا بهذا، سيكون من السهل علينا، أن نرجع إليها كل ما نطلق عليه العقل. والذي لا وجود له في الحيوانات، فعلى الرغم من كون الحيوانات تدرك، إلا أن إدراكها محصور فيما هو محسوس ومنظور. لكنها من المستحيل أن تدرك ما هو الحق أو الخير أو الجمال. وكذلك لن يصعب علينا استنتاج مصدر هذه الروح العاقلة، فمن سيكون ياترى؟ سوى الحي الصمد الروح الأزلي والعقل المطلق. ولن يصعب علينا استنتاج، أن الله سبحانه مادام قد ميز الإنسان بهذه الروح العاقلة، فهو حتما له غرض في هذا. وماذا يكون هذا الغرض سوى أن ترتبط هذه الروح به عز وجل من خلال علاقة واعية مشبعة لها؟ وبالتالي لن يصعب علينا استنتاج أن هذه الروح في داخلنا، لا بد أنها ستئن وتتوق في داخلنا لهذا التواصل مع خالقها إن حرمناها منه. ومن هنا نشأت كل أشكال التدين على مر العصور، والتي ما هي إلا تعبيرات عن يقين الروح بوجود مصدرها، وشعورها بالاغتراب عنه، وحنينها للعودة إليه.

الاغتراب

وقد كتب كثيرون من الفلاسفة وعلماء النفس، وعلى رأسهم إريك فروم، عن ما سموه الاغتراب، Alienation لكنهم اختلفوا في الأسباب ولم يقدموا لنا العلاج. وهو من وجهة نظري معاناة حقيقية لكنها برهان على اغتراب الروح عن الروح الأزلي. هذا الاغتراب نستشعره جميعا في داخلنا، لكننا نخطيء في تفسير نداءاته لنا! فأرواحنا تصرخ في داخلنا ترجو العلاقة مع خالقها، وتخلق فينا حالة من العطش إليه، نستشعره على أنه عطش لشيء لا نعلمه، أو نخطئ فنظنه عطش لمزيد من حب الناس، أو عطش لجمع المال، أو لمزيد من الشهرة والنجاح!! بل وأحيانا ما نفسر شوق أرواحنا للإلتحام بالروح الأعظم، على أنه شوق أجسادنا للإلتحام بجسد أخر! هذا ما ذهب إليه أعظم مفكري الإنجليز في القرن العشرين ج. ك. شيسترتون عندما قال: "إن من يطرق باب بيت من بيوت الدعارة هو في الحقيقة ضال كان في الأصل يبحث عن الله!"

أشباع الأحتياجات الروحية 

إذا اتفقت معي، عزيزي القارئ، على الفرضيات السابقة، فلابد أن نصل لاستنتاج هام، فحواه أنه إذا كان الإنسان كائنا روحيا، وليس فقط كائنا بيولوجيا، فهو يحتاج لإشباع حاجاته الروحية، بنفس قدر احتياجه لإشباع حاجاته البيولوجية. ثم، إذا لم تشبع حاجاته الروحية، فسوف تصاب روحه بخلل واضطراب له أعراضه المرضية. تماما كما يحدث مع جسده، إذا لم تشبع حاجاته البيولوجية. أيضًا إذا تم إشباع هذه الحاجات الروحية بصورة خاطئة، وهذا ما يحدث في حالات التدين الشكلي المظهري، سيصاب الإنسان بكل التشوهات النفسية والأخلاقية، والتي أشرت إليها في مقالاتي السابقة. تماما كما يحدث للإنسان لو أشبعت احتياجاته البيولوجية بصورة خاطئة.

التدين الحقيقى 

واسمح لي الأن، أن أتخيل معك كيف أن الإشباع الحقيقي الصحيح لاحتياجات الإنسان الروحية، من خلال التدين الحقيقي لا المظهري، يؤدي إلى الصحة النفسية.
التدين الحقيقي الصادق، يجعل النفس ترى جمال الخالق المنعكس في خليقته. تراه في كل شيء، في تنوع ألوان الزهور وروعة تصميم بتلاتها. تراه في روعة تصميم أجسام الأسماك وبهاء ألوانها، والتي ما كنا سنغضب أبدًا لو كان سبحانه قد جعلها كلها بتصميم ولون واحد. هذا الإدراك لجمال الخالق سبحانه، يحبب الجمال للنفس ويجذب النفس لخالقها، ويقربها له، ويلصقها به. فتحبه وتخافه، وتعبده وتهابه. فيشفيها هذا القرب من قبحها الموروث أو المكتسب، ويكسبها جمالا منعكسا من ذاته، وهو، سبحانه، الجمال المطلق.
التدين الحقيقي يجعل النفس ترى روعة حنان الخالق وحبه، في اعتناءه بكل مخلوقاته؛ بحمائمها وغربانها، بحملانها وسباعها. وتراه فيما سكبه، سبحانه، في قلوبنا نحن البشر، من عطف الأبوة وحنان الأمومة. فتعلم النفس المتدينة أن الحب هو شريعته التي بها يحكم خليقته، بل وهو العقد الذي يربطه بخليقته ويربط خليقته ببعضها. وعليه يصبح الكره هو الموت والتفسخ، بينما الحب هو الحياة والتوحد.
التدين الحقيقي يجعل النفس ترى عظمة العقل الأزلي في عظمة النجوم في أفلاكها، وروعة الذرات في مداراتها. فتدرك أنه سبحانه العقل المطلق مصدر كل عقل وإبداع. فتمجد العقل وتحترمه وتستعمله. ويجعلها تراه أنه تعالى هو الخير المطلق، فتمجد كل خير وتسعى بكل قوة لتعمله.
يجعلها تدرك أنه الحي مصدر كل نسمة حية، فتحب الحياة وتحترمها، وتحرص عليها وتقدرها، وترفض قتلها أو حتى أذيتها.
يجعلها تدرك أنه الخالق العظيم لكل الكائنات، لكن درة خلائقه هو الإنسان! فتحب الإنسان وتقدره، دون أدنى اعتبار للونه أو جنسه أو دينه فهو قبل كل شيء وبغض النظر عن اي شيء هو إنسان.
يجعلها تدرك أنه النور الحقيقي، وإذ تتعبد له، يسطع نوره عليها، فيجعلها ترى أول ما ترى حقيقة نفسها، فترى تقصيرها إن قصرت، وتعرف خطأها إن أخطأت. ويهبها الشجاعة لتعترف بخطأها، ويمنحها القوة لتصلح من شأنها.
التدين الحقيقي يجعل النفس ترى حكمة الخالق في أنه لم يخلق شيئا بدون غرض! فترفض أن تكون هي بلا غرض. وتكره أن تعيش بلا معنى. فتتعلق بالخالق حتى يكشف لها غرض وجودها. وتستمد من قدرته عونا يعينها على إتمام رسالتها.
التدين الحقيقي يجعل الإنسان يكتشف أن الخالق سبحانه، قد أنعم عليه بأن يكون وكيل الله في أرضه، وعليه أن يكتشف أسرارها وقوانينها، ليعمرها ويجملها ويستخرج خيراتها لنفسه، ولبقية إخوته في الجنس البشري. وهكذا ينطلق بقوة ليتعلم ويعمل، ويكتشف وينجز، فيخترع كل ما يشفي به مرضه، ويبني به وطنه، ويصلح به أمره، ويتفوق به في عمله. ومن هنا تعظم أمام عينيه قيمة العلم والاجتهاد والإتقان.

أخيرا أقول:

التدين الحقيقي يضع النفس في علاقة مع الودود، بسمته تريحها وتشفيها، وحقه يحررها ويحميها، وعزته تدعمها وتقويها، فتخرج للعالم نفس سوية جميلة، تبدع وتنتج وتستمتع، تفكر وتناقش وتحلل، تكتشف وتخترع وتتقدم. وفي النهاية ترجع الفضل كله للواهب المنان. فلا تنتفخ أو تتكبر.
فهل رأيت كيف أن التدين الحقيقي هو منبع الصحة النفسية؟

الاسمبريد إلكترونيرسالة