U3F1ZWV6ZTgxOTkyNDEzMzBfQWN0aXZhdGlvbjkyODg2MDk0Nzg0

التدين الشكلي والتخلف الحضاري - د. ماهر صموئيل








 التدين و الدين

في هذا المقال، لم أزل أفكر في التشوهات النفسية التي أصابت الشخصية المصرية، والتي ذكرها أستاذنا الكبير الدكتور أحمد عكاشة في كتابه: "تشريح الشخصية المصرية". وقد توقفت في مقالي السابق عند واحد من هذه التشوهات، ألا وهو العجز عن الإبداع والابتكار. وقد بينت، قدر المستطاع، علاقة التدين الشكلي بهذا العجز. وأرجو أن يكون واضحًا لدى قرائي الأعزاء، أنني لا أتكلم إطلاقًا عن الدين. لكن عن أسلوب التدين؛ هل هو خالص صادق لوجه الله، أم هو مظهري كاذب يبغي أغراضا أخرى. وهو أسلوب معروف وموجود في كل الأديان. واليوم أتوقف عند مجموعة تشوهات ذكرها أستاذنا، وهي: "السلبية العدوانية، والاعتمادية، والاستكانة، وعدم المثابرة". وهي تشوهات تضمن لأي أمة، من وجهة نظري، التخلف الحضاري. وسأحاول أن أبين دور التدين الشكلي في هذا التشوه، وذاك التخلف.

التدين و تشوه الشخصية المصرية

وقد يسأل سائل، عن سبب تركيزي على التدين الشكلي، وعدم الإشارة للأسباب الأخرى التي تشوه الشخصية المصرية. فأقول لأن التدين بالنسبة للمصري، بغض النظر عن نوع الدين، ليس هو شيئا ثانويا في حياته، بل هو مكون أصيل من مكونات شخصيته، وله اليد العليا في تشكيلها. وبالتالي إذا أصيب المصري في تدينه، أصيبت شخصيته في مقتل. فمن المعروف أن هناك خمسة عوامل مسئولة عن تكوين الشخصية هي: الجينات الوراثية، التربية الأسرية، البيئة الاجتماعية، العملية التعليمية، ثم الثقافة الشخصية. ولا يخفى على قارئي دور الدين في هذه العوامل بالنسبة للمصري، فباستثناء "الجينات الوراثية"، يشكل الدين المكون الأكبر في العوامل الأربعة الأخرى. بل وحتى بالنسبة للجينات، يقول الدكتور عكاشة وغيره:"إن التدين موجود في جينات المصريين"!

التدين و التربية الأسرية

فمن جهة التربية الأسرية، تحرص معظم الأسر المصرية، على غرس التدين مبكرًا جدًا في نفوس أطفالها، وفي بعض الحالات بمبالغة، لا تتناسب مع عمر الطفل ودرجة استيعابه، وبكون الغرض منها هو فقط التباهي والتفاخر بهم أمام المجتمع الذي سيمدح الأبوين بشدة. ومن جهة البيئة الاجتماعية، من منا لا يرى الصبغة الدينية التي اصطبغ بها المجتمع كله، والتي طالت كل تفاصيل حياتنا، بدءًا من ملبسنا ولغتنا ورنات هواتفنا وحتى كرة القدم عندنا؟ ومن جهة التعليم، من منا لا يرى بصمة التدين الواضحة في العملية التعليمية، سواء في شكلها أو أسلوبها أو في محتواها؟ أما من جهة أثره في ثقافة الأفراد، فيكفي أن تسأل عن نسبة استماع ومشاهدة المواطن المصري لما هو ديني، أو أن تسأل عن نسبة مبيعات الكتب الدينية، مقارنة بكل الكتب الأخرى في كل فروع العلم والثقافة، في معرض القاهرة الدولي للكتاب. ومن الأرقام ستعرف وتتيقن أنك لن تجد شعبا على وجه الأرض يشكل الدين ثقافة أفراده مثلنا.
إذًا لست أبالغ، إذا قلت أن العمود الفقري في الشخصية المصرية هو التدين. وهذا شيء رائع في حد ذاته، ونحمد الله عليه، إلا أن المشكلة هي أنه، كما ذكرت، إذا أصيبت هذه الشخصية في تدينها، فهي قد أصيبت في مقتل. وهذا ما نعيشه الأن، فعندما ابتليت شخصياتنا بفيروس التدين الشكلي المظهري، ظهر فيها الكثير من التشوهات، ووصلت إلى مرحلة من التدهور، يمكنني معها القول بأنها قد صارت شخصية معادية للتقدم، ومنتجة للتخلف.
والأن أتي إلى سؤال هذا المقال

هل للتدين الشكلي المظهري يد في هذه السلبية، والاستكانة، والاعتمادية، وعدم المثابرة، بل والعدوانية التي يعيشها شعبنا العزيز الأن؟ ومن الجانب الأخر، هل التدين الحقيقي الصادق يدفع النفس نحو الإيجابية، والاجتهاد، والمثابرة، والحرية، والمصالحة مع النفس ومع الأخرين؟ 

وإجابتي في الحالتين هي: نعم. لكن يبقى السؤال: كيف؟ وسأكتفي هنا بالإجابة عن النصف الأول من السؤال، وأترك النصف الثاني لمقال قادم. وألخص إجابتي في نقطتين:

 الوثنية الفكرية

أولاً، إن مأساة التدين الشكلي، تبدأ من تلك الصورة الخاطئة عن المولى عز وجل، والتي تقبع في ذهن ضحيته. فالله في ذهن صاحبنا وخياله، هو مجرد قوة كبيرة جبارة، يتم استقطابها واسترضاءها من خلال الممارسات الدينية! وكأن هذه الممارسات قد شرعها الخالق لتكون مجرد ثمن يدفعه المتدين، لكي يضمن وقوف القوة الإلهية إلى جواره، لتسدد له احتياجاته، وتلبي له رغباته، وتنصره على أعداءه. وطالما هو ملتزم في دفع الثمن، فلا يوجد أي احتياج للاجتهاد لتحقيق النجاح، فلا احتياج لإعمال العقل في حل المشاكل، ولا احتياج لاحترام العلم، والإلتزام بالمبادئ الأخلاقية، واحترام القوانين الوضعية. الأمور التي هي المبادئ الأولية لتحقيق الرقي والتقدم. لا احتياج لكل هذا، لأن القوة الإلهية ستقوم بكل شيء. وستجعل كل شيء على ما يرام. طالما أنه يؤدي المطلوب منه من ممارسات دينية مختلفة! وهكذا تنتج السلبية والاعتمادية وعدم المثابرة. هذه هي الكارثة الأولى.
وأما الكارثة الثانية، فهي أدهى وتحدث كنتيجة للأولى. فعندما تتوالى على صاحبنا المصائب؛ من فقر، ومرض، وجهل، وقهر وذل، كنتيجة حتمية لسلبيته وتكاسله؛ تجده لا يُرجع أبدًا هذه المصائب لسببها الحقيقي ألا وهي خيبته. فهو لا يرى أي تقصير من جانبه طالما أنه شخص متدين وملتزم، صحيح أن هناك بعض الهفوات، والزلات الصغيرة التافهة التي تصدر منه، من قبيل عدم احترام مواعيد العمل، وعدم الأمانة في تأدية العمل نفسه، وعدم الصدق في الكلام، وعدم احترام القانون، وعدم احترام حقوق الأخرين، وعدم قبول الأخر؛ فالقبطي لا يقبل المسلم، والمسلم لا يقبل القبطي، والبروتستانتي لا يقبل الأورثوذكسي، والأورثوذكسي لا يقبل البروتستانتي، والشيعي لا يقبل السني، والسني لا يقبل الشيعي. لكن كلها كما ترى مسائل تافهة، لا يمكن أبدًا أن تغضب الله. وحتى إذا افترضنا أن بعضا من هذه الهفوات التافهة قد أبغضته سبحانه، فليسحب من رصيد الحسنات الهائل الذي لصاحبنا عنده! إذًا: لا يمكن أن تكون هذه المصائب بسبب خيبته، ولا هي عقاب من الله على ذنب ارتكبه. والحل أنها شيء من اثنين؛ إما أن تكون ابتلاءًا من الله، سبحانه وتعالى، ليمتحن مدى صبره على البلاء بكل صوره. وفي هذه الحالة طبعا لا مفر من الاستسلام والاستكانة، حيث لا راد لقضاءه. أو الحل الثاني أن تكون هذه الكوارث هي مؤامرة دنيئة من الأشرار، وفي هذه الحالة، لا مفر من العدوانية والكراهية لعدو موجود، أو يتم اصطناعه إن لم يكن موجودًا! وهكذا تنتج الشخصية العدوانية الغير متصالحة لا مع نفسها ولا مع الأخر.

ثانياً: الشوفينزم والقمة الوهمية

تعطش الشعوب باستمرار لقيمة كبيرة تحققها، تعطيها هويتها ومكانتها بين شعوب الأرض، وليس عندهم من وسائل لتحقيق ذلك، سوى العقل الذي منحهم الله إياه، فينطلقون يُعملونه، ويعتصرونه، مستغلين مواردهم المتاحة، ومقدرين العلم والقانون والأخلاق لكي يتحضروا ويتميزوا. لكن إن كان لديك شعبا مسكينا يعاني، وقد وصل لذيل قائمة الشعوب في كل شيء. وعلى الرغم من هذا يظل ليل نهار يسمع من يشعره ويقنعه بأنه أفضل من كل الشعوب بسبب تدينه! وأن هذه الشعوب المتقدمة التي يراها أو يسمع عنها، هي شعوب منحطة وضائعة، ونهايتها جهنم وبئس المصير. وأن المسألة، هي فقط مسألة وقت، لكي يتبرهن للجميع عظمة مقامه بينهم وتفوقه عليهم! فكيف تطلب منه أن يتعلم من شعوب منحطة وفاسدة!؟ وما حاجته للكفاح والاجتهاد، للبحث عن قيمة، تعطيه مكانة بين شعوب هو من الأصل أفضل منها!؟ إنه خارج المنافسة.
عندما أهمل جدي الجوهر، واكتفى فقط بالمظهر،
أصيب جدي في مقتل.
غابت عنه إشراقة الجوهر الأزلي، وحلت صورة الوثنِ،
حلت بإزميل على حجرِ، أو بقلم على ورقِ، أو بخيال وفكّْرِ.
غاص جدي في الوحل، وعبد الوثن.
غاب نور الحق عن العقل، فصمت،
غاب هيام الروح، ولم يبق سوى عرق الجسد.
ماتت الروح، انطفأ الجمال، ولم يبق سوى الصنم.
الاسمبريد إلكترونيرسالة