U3F1ZWV6ZTgxOTkyNDEzMzBfQWN0aXZhdGlvbjkyODg2MDk0Nzg0

التدين الشكلي والتشوه النفسي - بقلم د. ماهر صموئيل


يذكر أستاذنا الكبير الدكتور أحمد عكاشة في كتابه "تشريح الشخصية المصرية" الأتي:
"فالكثيرون من المصريين يتميزون بما يسمى بالشخصية السلبية العدوانية، والاعتمادية، كذلك الاستكانة والتقوقع حول الذات والأسرة؛ بغض النظر عن المبادئ. وعدم التواصل والمثابرة والتغير المستمر، والعجز عن الابتكار. والتصور الخاطئ للدين وإهمال الواقع المادي، والانغماس في القرارات الانفعالية والعاطفية. وأخيرًا فوضى اللغة" ص٨
وعندما نقرأ هذه السمات لابد أن ينتابنا الحزن على أنفسنا، ونمتلئ بالرثاء لها، فما كل هذه التشوهات؟! وما كل هذا القبح؟! وهل لشعب بهذه التشوهات فرصة لكي يتقدم في أي مجال من المجالات؟

ما هي الاسباب

والسؤال الذي يطرح نفسه على كل محب لهذا الشعب المسكين هو: ما هي الأسباب؟

وكعادة الطبيب النفسي إزاء معظم الأمراض والعيوب النفسية، لابد أن يسأل عن التاريخ العائلي لكي يكتشف إن كانت هناك أسباب وراثية أم لا. فهل هذه التشوهات عندنا كمصريين هي ميراث من الأجداد؟ هل كان أجدادنا القدماء بهذا الحجم من القبح في شخصياتهم؟ هل من أبدعوا الجمال في العمارة والنحت والرسم، ومن برعوا في مزج الألوان كانوا مصابين بهذه التشوهات!؟ هل كان صناع أول حضارة عرفها التاريخ، ومن من قال عنهم فلاسفة اليونان العظماء: "إننا كالأطفال إزاء فلسفة المصريين القدماء"، ومن أسسوا وبرعوا في علوم الهندسة والطب والفلك، هل كان هؤلاء عاجزين عن الإبداع والابتكار!؟ هل كان بناة الأهرام والكرنك ونحاتي الجرانيت غير قادرين على الاجتهاد والمثابرة ؟ هل أول من عرف الله وأمن باليوم الآخر، قبل ظهور كل الديانات كما يشهد عنهم ول ديورانت وهنري بريستد، كانوا لا يعبأون بالمبادئ وينشغلون فقط بالتقوقع حول الذات؟

من أين جاء

أعتقد أن أي قارئ للتاريخ لا يمكن أن يقبل أبدًا أن قبحنا قبحا موروثا، إذًا من أين جاء؟

يقينا هناك أسباب كثيرة نعرفها، وربما هناك ما لم يزل مجهولا يحتاج لمن يكشفه. وهنا، في هذا المقال، أتوقف عند واحد من هذه الأسباب أراه، من وجهة نظري وقد أكون مخطئا، أخطرها وأخبثها ألا وهو: "التدين الشكلي المظهري" . وكما بينت في مقالي السابق أنه علة الفساد الأخلاقي، أقول هنا أنه مسئول كبير عن هذه التشوهات.
وبالطبع قد يقول قائل أن فيروس التدين الشكلي الأجوف ليس حكرًا علينا؛ فهو أصاب غيرنا كما أصابنا، فلماذا لم يُحدث فيهم ما أحدثه فينا؟ فأقول إن هذا الفيروس حيثما يضرب هو يشوه ويقبح، لكن حجم التشوه وشدة انتشاره يعتمدان على مركز الدين في حياة من يضربهم، وما أدراك ما الدين بالنسبة للمصريين، فهو العمود الفقري لحياتهم، وعليه فعندما ضرب هذا المرض الخبيث المصريين فهو قد كسر عمودهم الفقري وقطع حبلهم الشوكي وأصابهم بالشلل التام.
والأن يمكنني أن أتقدم قليلا لأحاول، وقد أخطئ وقد أصيب، أن أوضح كيف يكون التدين الشكلي سببًا كبيرًا من أسباب هذه التشوهات التي ذكرها أستاذنا الكبير. وسأكتفي في هذا المقال بتشوه واحد فأوضح كيف يسحق التدين الشكلي القدرة على الابتكار.

التدين الحقيقى

للتدين الحقيقي منبع ومصب، دافع وغاية، وكلاهما من وجهة نظري يشعلان الإبداع ويفجران طاقاته!

فمن جهة دافعه فهو ينبع من أرقى منبع داخل الإنسان، ألا وهو عطش الروح لمصدرها، شوق المخلوق لخالقه ليجد فيه ملاذه ومقره. يرتوي ويستريح بين يديه، ولهذا فهو يبذل الجهد لكي يتقرب إلى خالقه ويعرفه. وأهم أدواته لتحقيق هذا هو عقله الباحث المفكر، وخليقة الله البديعة من حوله. فتجده لا يكف عن التفكير والتساؤل والتأمل والتحاور والتحليل والاستدلال والاستنباط والاستنتاج. كما تجده محبًا لخليقة الله؛ إذ هي الشاهد الأعظم على جلاله، والكاشف الأكبر لصفاته. فتجده يحبها ويتأملها ويعمل فيها عقله، ليسبر أغوارها ويكتشف قوانينها. ومن هنا تنطلق كل طاقاته في الإبداع والابتكار.
أما من جهة الغاية القصوى التي يرجو المتدين الحقيقي الوصول إليها، فهي الوصول لإجابة أهم سؤال في الحياة ألا وهو: من أنا ولماذا أنا هنا؟ تلك الحيرة الوجودية التي تعذب كل عاقل، والتي لا حل لها إلا عنده سبحانه. فهو الذي نسج الإنسان في بطن أمه، ويعرف كل خلية في جسده، وهو الذي لم يخلق زهرة عبثا؛ فهل يعقل أن يكون قد أضاف إنسانا عاقلا بلا غرض خاص به؟ وهكذا يكتشف المتدين الحقيقي، أن المولى عز وجل كما لم يكرر بصمة جينية بين إنسانين، لم يكرر نقس الرسالة والغرض لشخصين! فكل إنسان فريد في تكوينه وفريد في رسالته. وهنا يجد نفسه ملزما أن يجاهد في الحياة، وفي العلاقة مع خالقه، ليكتشف الرسالة الخاصة به ولينطلق متمما إياها، محققا أقصى لذة وجودية إذ يشعر بكينونته الفريدة ويتعرف على ذاته.

فماذا عن التدين الشكلي ؟

وهكذا تجد يا صديقي أن التدين الحقيقي في منبعه ومصبه يجبر المتدين إجبارا على التفكير والابتكار. فماذا عن التدين الشكلي؟

التدين الشكلي المظهري له منبع ومصب مختلفان تماما عن كل ما سبق، بغض النظر عن نوع الدين واختلاف المعتقد. فهو ينبع من الخوف والشعور بالذنب، وغايته القصوى هي إعجاب وتقدير الناس من حوله. وهو يستهلك كل طاقات المتدين للتخلص من هذا الشعور ولتحقيق تلك الغاية. ولكي يتخلص المتدين من الشعور بالذنب فهو يقيم علاقة وثيقة بالفرض دون أدنى احتياج للعلاقة مع من وضع الفرض! ودون أدنى مجهود للتعرف عليه سبحانه. والفرض لا يحتاج لتفكير أو ابتكار فالمسألة روتينية ميكانيكية ميتة، لا تحتاج حتى للوعي. فهو يستطيع أن يمارس الفرض بإتقان وعقله منصرف تماما لشيء أخر! وفي تدينه هذا لا يطلب منه أبدا أن يفهم، فكل ما هو مطلوب منه هو أن يحفظ ويردد، ويمارس ويلتزم! كما أنه يتجنب السؤال والجدال أو يمنع عنهما، لئلا تبرز له أشياء تزعجه وتضطره أن يعمل عقله فتفسد عليه تلك الراحة الوهمية التي يستمتع بها، أو تخرجه من هذا الأمان الزائف الذي صار يعيش فيه. وعندما تكون الغاية القصوى للمتدين هي الحصول على إعجاب من حوله وتقديرهم لتدينه، والفوز منهم بلقب "متدين"، ينطلق ليبالغ صاحبنا ويزايد في كل ما يراه الناس من تدينه. وبما أنهم لا يرون سوى المظهر، فيصب المتدين كل اهتمامه على مظاهر التدين. ولأن المظهر له عناصر ثابتة وأبعاد محددة مسبقا. فبسرعة يتمكن المتدين من ارتداء كل هذه المظاهر. وهكذا يصب نفسه في القالب الذي خرج منه كل من هم على شاكلته. لتجد في النهاية أمامك نسخا من البشر ممسوخة، ضاع منهم تفردهم، وطمست هويتهم الفردية ولم تبق لهم سوى الهوية الجماعية هوية القالب. وهكذا تضمر كل ملكات الابتكار حيث لا يحتاج المصري إليها وهو يمارس أهم وأخطر نشاط لديه.
نعم ليس التدين الحقيقي هو مصدر الابتكار لكنه يشعله ويدعمه ويطلقه، بينما التدين الشكلي يغتاله أو على الأقل يرهبه.
هناك في الماضي البعيد، وعلى ضفتي النهر الجميل،
كان جدي القديم يبدع وينحت، يرسم ويعزف، دون تجريم أو حرمان
كان جدي خبيرا في الجمال ولم يقبل القبح أينما كان
رفض جدي القبح وتحداه، حتى ولو كان قبح الموت في الأجساد،
وأما الأن
فقد فرض القبح وجوده في كل مكان، في المبنى وفي الشارع، في الملبس بل وفي الإنسان!
الاسمبريد إلكترونيرسالة